قراراتنا وتفكيرنا والتنبؤ الخاطئ

17 يونيو, 2010

يتّخذ كلّ واحد منا قرارات كثيرة تصل إلى المئات في اليوم، ابتداء من قرارنا في الصحو مبكرًا أو متأخرًا، وإجراءات النظافة المعتادة، واختيار الملابس وتناول الإفطار وإلقاء التحية على أفراد الأسرة..إلخ، ومرورًا باختيار وسيلة النقل وما يرافقها من قرارات تتعلّق بالذهاب مع هذا الشارع أو ذاك واتّباع سرعة معينة..إلخ. ولا تقف القرارات حتى نخلد إلى النوم وهو، كذلك، قرار يحتاج إلى حسم في تحديد موعده وطريقته.

إن هذه القرارات: سواء أكانت تافهة أم مهمة جدًا، لابد أن نصنعها، ولاسيما عندما يسود شعور كبير من عدم التأكّد حول كون القرار سليمًا أو مخطئًا، أو عندما تُحرّف البدائل أو النتائج الممكنة من خلال المعلومات المحدودة المتوافرة لدينا وقت اتخاذ القرار. ما الذي يؤثر في أحكامنا وقراراتنا في هذه الظروف؟ هل نتصرّف بصورة عقلية في اتخاذ هذه القرارات؟ هل نتصرّف من أجل مصلحتنا الذاتية؟ هل ثمة أنماط من السلوك في الخيارات، وفي الأخطاء التي نرتكبها، ممّا يمكن وصفه وفهمه على نحو تحليلي، كي نفهم بصورة أفضل الكيفية التي نتّخذ فيها قراراتنا؟

كتب عالما النفس: دانيل كانمان (Daniel Kahneman)، وأموس تيفرسكي (Amos Tversky): «ربما تعد صناعة القرارات هي الفعالية الأكثر جوهرية والتي تميز المخلوقات الحية». ونتيجة لذلك كان الهدف الأساسي للعلوم الاجتماعية والسلوكية هو محاولة فهم اختيار الفرد وتفسيره والتنبؤ به.

وثمة مجموعة من التفسيرات التي حفلت بها النظريات الأساسية في العلوم الاجتماعية التي ركزت على كيفية اتخاذ القرار، وهناك بعض المفاهيم والنتائج المخالفة للحدس التي طرحها علماء النفس والاقتصاد عندما بحثوا في موضوع اتخاذ القرارات في ظروف مختلفة. ونظرًا لضيق المساحة المخصصة لهذه الزاوية، فسوف أتناول واحدة من النظريات المشهورة في علم الاجتماع، على أمل أن تتاح الفرصة في المستقبل لاستعراض نظريات وتفسيرات أخرى لها علاقة بهذا الموضوع.

والنظرية المقصودة هي ما يطلق عليها اسم “النبوءة الذاتية التحقق” (Self-Fulfilling Prophecy). وقد صاغ هذا المصطلح، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا البروفيسور روبرت ميرتون (Robert Merton). وقد عرفها بقوله: «تُعرّف النبوءة الذاتية التحقق على أنها تزييف للموقف»، وتثير «سلوكًا جديدًا يجعل المفهوم الخاطئ الأصلي يتحقق». ويضيف: «تديم الفعالية الخاصة بالنبوءة الذاتية التحقق سيادة الخطأ، لأن المتنبئ يُحدّد المسار الفعلي للأحداث بوصفه دليلاً على كونه مصيبًا منذ البداية».

ومن السهل ذكر أمثلة عن النبوءة الذاتية التحقّق، لأنّ هذا المبدأ ينطبق على الفرد وعلى الجماعة. مثلاً، إذا لم أعتقد أنّ شخصًا ما جديرا بالثقة، فسأبدأ بالتعامل معه على أنه ليس جديرًا بالثقة، وسيبدأ هو بالفعل بالتصرّف بطرق غير موثوقة. أو إذا اعتقد الناس أن هذا الشخص مقصر، فسيصنعون ظروفًا غير مواتية مثل: عدم توظيفه أو عدم دعمه، مما يؤدي إلى تقصيره فعليًا. وأحيانًا، يؤمن الفرد بما يقال عنه من معلومات سلبية، ويبدأ يتصرّف وفقًا لها.

ذكر لي أحد الطلاب المبتعثين في إحدى الدول العربية المجاورة، أن بعض الأساتذة في ذلك البلد يعتقدون أن أي بحث يقدّمه طالب سعودي هو بحث مزوّر ومصنوع في مكتب خدمات الطالب ولن يستحق إلا درجة متدنية. ومهما حاول الطالب إثبات أنه هو الباحث الفعلي، لن يجد سوى النكران ونظرات الشك التي تجعله في موضع محرج. يقول هذا الطالب إنه لم يفلح في تحسين صورته بعد محاولات عديدة، مما جعله في النهاية يلجأ إلى مكاتب خدمات الطالب لكتابة بحوثه، لأنه وجد نفسه في النهاية مدفوعًا لذلك.

والأمر نفسه يمكن أن يحصل مع الطفل الذي يتكرّر اتهامه بالكذب وهو صادق، فقد ينتهي به الأمر إلى ممارسة الكذب. وكذلك الزوج أو الزوجة الذي تُلاحقه شكوك من الطرف الآخر بالخطأ رغم نزاهته أو نزاهتها، ففي حالات كثيرة ينتهي الأمر بتحقّق تلك الشكوك التي لم يكن لها وجود في السابق. ويرجع السبب إلى أن الذهن يبدأ بتجميع الصور ويُراكمها، ولأنّ الصورة السلبية التي قيلت لا تجد ما يطابقها حينما تأتي لأول مرّة بسبب خلو ذهنه ممّا يشابهها عن الذات، فإنّ تكرر ورود الصور مع مرور الزمن، يجعلها تجد صدى من البقايا التي تركتها الصور المزيفة الأولى. ويبدأ الذهن في تقبّل ما كان مزيفًا وربما يتعامل معه من جديد على أنه حقيقة. وقد لاحظت عالمة النفس الاجتماعي “اليزابيث لوفتوس” (Elizabeth Loftus)، وهي أستاذة في جامعة “كاليفورنيا” في “إيفرين”، أن تكرّر الصور يخلق عند الفرد تجربة تتداخل مع تجاربه السابقة ثم تظهر على نمط “ذكريات مزيفة” حينما يصدّق ما يقال عنه.

وما ينطبق على الفرد يمكن أن ينسحب على المجموعة كذلك، حينما يعتقد أصحاب النفوذ والسلطة أن مجموعة من الناس كأهل مدينة أو أقلية معينة هم أقل مقدرة في مجال معين من الأفراد في الجماعات الأخرى، كالاعتقاد بأن التعليم لايهمهم وأنهم ربما لا ينجحون في المدارس، فإنهم قد يحددون مصادر أقل لتعليم هؤلاء الطلاب. ومع تحديد المصادر على أساس التعريف الخاطئ، سيتم توظيف مدرسين أقل مستوى وخلق بيئة مدرسية متدنية، وسيكون مستوى أداء الطلاب منخفضًا نسبيًا في المدارس مقارنة مع الطلاب في المجموعة الأغلبية. ويبدو أنّ هذه النبوءة الأصلية تثبت صحتها، على الرغم من إمكانية تحسّن أداء الطلاب إذا قدّمت مدارسهم المواد نفسها التي تقدّمها المدارس الأخرى.

وبمثل ما يكون التنبؤ سلبيًا، فإنه قد يكون إيجابيًا بتعريض الفرد لكي يرى نفسه في صورة أفضل، وربما يُصدّق ذلك ويتمثّله في سلوكه. وثمّة مواقف قديمة وحديثة تكشف عن تصديق المرء لشخصية فرضت عليه ومع مرور الزمن يتكيّف معها ويصدّقها. وعلى سبيل المثال، فقد حفل كتاب “نشوار المحاضرة” للتنوخي بقصص عديدة لأفراد تتحوّل شخصياتهم من نمط إلى آخر بسبب ظروف طارئة تمرّ بهم، ومايلبث بعضهم أن ينسجم مع النمط الجديد فيتكيف معه، ثم يعتقد اعتقادًا جازمًا أنه ممثل حقيقي للشخصية، كأن يؤمن بأنه من سلالة السلاطين، أو أنه يحمل بركة، أو يعرف مالا يُعرف، أو أنه مصطفى من بين الخلق لأداء مهمّة، أو أنّ إلهامًا يصل إليه لتنفيذ عمل معين .إلخ.

على أن بعض وسائل العلاج النفسي ويقابلها وسائل التعذيب تتّخذ من التكرار وسيلة لتأسيس مفاهيم وبناء صور ونماذج تؤدي إلى تغيير التصورات عند المرء في جانبيها السلبي والإيجابي.

ناصر الحجيلان   … جريدة الرياض

Be Sociable, Share!
هذا الموضوع كتب في يونيو 17, 2010 في الساعة 2:14 م ومصنف بهذه التصنيفات: مقالات مختاره. يمكنك متابعة التعليقات على هذا الموضوع عن طريق ملف الخلاصات RSS 2.0. يمكنك أن تكتب تعليقاً, أو تعقب على الموضوع من موقعك.

التعليقات

اكتب تعليق





يمكنك أيضاً متابعة التعليقات على هذا الموضوع عن طريق ملف الخلاصات RSS 2.0