التلقائية نظام أساسي لامتلاك الفاعلية الإنسانية
30 يونيو, 2010
إن أهم معرفة تلزم للإنسان عن نفسه وعن الآخرين في أي مكان وجد وفي أية بيئة ولد وبأية ثقافة تبرمج ولأي مجتمع ينتسب هي أن يدرك أن الصفة الأساسية للإنسان أنه كائن تلقائي وأن فاعلياته تتوقف على هذه التلقائية وأن التلقائية نظام ذاتي التشغيل وأن الفرد مثلما أنه قابل للتبرمج العفو في طفولته فإنه بعد أن يكبر قابل لإعادة البرمجة ولكن بصعوبة كما أنه قابل للتعبئة بالمعارف والمهارات والتهذيب إلى ما لا نهاية وأن المعلومات لا تتحول إلى معارف ممازجة للذات ولا مهارات محتشدة في النفس ولا إلى سلوك عفوي إلا إذا تبرمج بها الفرد تبرمجاً راسخاً لتنساب منه تلقائياً وهو لن يتبرمج بها إلا إذا مارسها بشغف شديد وطبقها بانتظام متصل، فالتبرمج لا يكون إلا بتكرار الفعل تكراراً كافياً للرسوخ، فالتبرمج لا يحصل بالمعلومات وإنما يتحقق برسوخ التعود، فالمعلومات التي تحفظ ولا تمارس ليس لها أي تأثير على تفكير الإنسان ولا على وعيه ولا على سلوكه بل هي تشبه خزاناً جانبياً مليئاً بالوقود في السيارة لكنه غير موصول بالمكينة فيبقى معدوم الفاعلية، فالاستفادة من هذا الوقود الجانبي تتوقف على ربط الخزان بالمحرك وتوصيل الوقود لشرارة التشغيل وكذلك ما تحفظه الذاكرة ليس هو التبرمج وإنما هو مجرد مادة محايدة لا تتحول إلى برمجة ممازجة للنفس إلا إذا جرى تطبيقها بعناية شديدة ومورست باهتمام تلقائي وتكررت ممارستها تكراراً يكفي لبناء العادة وترسيخها، عند ذلك فقد تصير عتاداً ذاتياً يفيض تلقائياً..
ومن هذه الخاصية الإنسانية الأساسية للتبرمج التلقائي أو المقصود، تأتي هذه الفاعلية العجيبة والرسوخ الوثيق والثبات الدائم وتلقائية الاستخدام لبرمجة الطفولة، كما تأتي منها امكانية أن يبرمج الفرد نفسه بما يريد من معارف ومهارات وميول وتهذيب، ليجد في داخله مدداً دائماً وذخيرة جاهزة ولينال تلقائياً من ذاته ما كرر فعله وما تبرمج به. إن الطفل يولد بقابليات فارغة مفتوحة ومتهيئة لتشرب اللغة والثقافة تلقائياً فلا يصير المولود إنساناً يملك لغة يتواصل بها مع الآخرين إلا بما يتلقاه من البيئة، إنه ليس مثل الحيوانات التي تولد جاهزة ومكتملة التكوين وإنما أهم خصائصه الكبرى أنه يولد خالي القابليات وناقص التكوين وعاجزاً مطلقاً عن العناية بنفسه، وهو عجز يستبقيه عدداً من السنوات معتمداً على غيره: جسداً وعقلاً ووجوداً، إن هذا العجز المطلق المصحوب بهذه القابليات الفارغة ذات القدرة العجيبة على التشرب التلقائي تجعله خاضعاً للبيئة خضوعاً تاماً تتحدد به هويته، وبذلك يتحدد نمط تفكيره ونوع لغته وكل ما يستتبع ذلك من ذوبان في البيئة الاجتماعية والثقافية، فيصبح بعقل محدد وربما بذهن مغلق يصعب فتح أبوابه أو تغيير اتجاهه في حلحلة قناعاته رغم أنه تبرمج بها دون علمه وقبل بزوغ وعيه ولم يحاول أن يراجع هذه البرمجة أو يتأكد من أي شيء من محتواها، وإنما ذاب فيها فصارت هي وعيه مما يحيلها إلى حقائق ومسلمات غير قابلة للشك…
إن اعتماد الطفل اعتماداً كلياً على غيره، وانفتاح قابلياته لأية برمجة هي التي تنقله من عالم الاحتمالات المفتوحة إلى عالم التحديد ولكن هذا التحديد بقدر ما هو شرط إنسانيته، فإنه يمثل معضلته الكبرى المستعصية، فالوجه الإيجابي لنقصه وعجزه وحاجته إلى الصياغة أنه لو ولد مكتملاً لكان مثل النحل والنمل لا يستطيع أن يضيف أي شيء جديد لذاته ولا لأمته ولا للحضارة الإنسانية، وإنما يكرر ما فعله أسلافه تكراراً نمطياً لا يتغير ولا يتطور كالنمل والنحل، غير أن هذه القابليات المفتوحة المتهيئة لأية برمجة هي في الغالب تتشبع تلقائياً بما لم يخضع لأية غربلة من الأفكار المعيقة والتصورات الوهمية والاتجاهات العقيمة والقيود الثقافية الآسرة، بل إن الفرد مهما كانت الثقافة التي يتبرمج بها يتوهم في الغالب أنه محظوظ بما تبرمج به، فيستميت في التمسك به والدفاع عنه مما يجعله يرفض عوامل انعتاقه من البرمجة المعيقة.
إن فراغ قابليات الطفل في سنواته الأولى المبكرة وقدرتها على التشرب التلقائي يجعلها مفتوحة لأية برمجة سواء كانت جيدة أم سيئة كما أن قابليات الكبار للتعبئة بالمعارف الممحَّصة والمهارات المدهشة والأخلاق العالية والتهذيب المتحضر وقابلياتها لإعادة البرمجة الثقافية تجعل الأفاق أيضاً مفتوحة لحتمالات التطور الثقافي والحضاري بتأثير الريادات الخارقة للتلقائية والاستجابات الاجتماعية العامة، ولكنها احتمالات نادرة كما يشهد بذلك تاريخ الحاضرة وكذلك حركات التطور في العالم، واستمرار الكثير من المجتمعات عاجزة عن الانعتاق من الأسر الثقافي، إن مزايا الإنسان أو نقائصه ومعارفه أو جهالاته وانفتاحه أو انغلاقه وتسامحه أو تعصبه ومرونته أو تصلبه وقوته، أو ضعفه في الفكر والسلوك، كلها تأتي مما يتشربه تلقائياً من بيئته فهو يبقى مرتهناً بالعجز المطلق سنوات الطفولة الأولى مما يجعله مفتوح القابليات ومتهيئاً لأية برمجة سواء كان محتوى البرمجة صحيحاً أم كان خاطئاً أم كان خليطاً من الصواب والخطأ. فيتكون الفرد لغة وعقلاً ووجداناً وأخلاقاً بما يتشربه وبما ينضاف إليه ثقافياً لا بما يولد به بيولوجياً فبما تتشبع به قابليات الفرد يكتسب هويته فيستمر ولاؤه للقالب الذي صاغه وللرحم الثقافي الذي نشأ فيه..
إن الفرد يصبح إنساناً عاقلاً بما يتشربه تلقائياً مما هو سائد في البيئة لكن لما كانت العقول تتنوع بتنوع الثقافات إذ ليس العقل جوهراً ثابتاً وإنما يتشكل بالأنماط الثقافية المتنوعة والمتنافرة، وبسبب ذلك فإن عقل أي فرد يبقى مشروطاً ومحدداً بالثقافة التي صاغته، فهو من الناحية الذهنية والنفسية والعاطفية والأخلاقية صياغة اجتماعية محضة وليس وراثة بيولوجية، إنه لا يرث بيولوجياً أي محتوى عقلي، وإنما يرث فقط استعدادات فارغة، إنه يرث عن أبويه خصائصه الجسدية كما يرث عنهما بعض القابليات العقلية الجيدة أو الردئية فقط، لكنها أيضاً قابليات فارغة من أي مضمون، وهذه الخصائص البدنية ليس لها تأثير على ما سيكون عليه من اتجاهات في حياته بل البيئة الاجتماعية والثقافية هي التي تحدد اتجاهه، ومن هنا تأتي الأهمية الأساسية لتعبئة قابلياته بالأنقى والأجود والأنفع، أو العمل على إعادة برمجته بذلك إذا كانت برمجة الطفولة سيئة، وهي في الغالب تكون كذلك لأنها في أكثر الأحيان نتاج ثقافة المشافهة، إنها برمجة تلقائية ولم تخضع لأية مراجعة أو غربلة أو فحص أو تحليل، ولكن لا يفطن لذلك إلا الذين لهم دراية بعمليات التحقق العلمي…
إن الذي تتلقاه قابليات الطفل الفارغة يصبح في نظامه وانتظامه وثباته قريباً من نظام وانتظام وثبات الغريزة، فالبرمجة الثقافية التلقائية هي البديل للغرائز عند الحيوانات التي هي ذات فاعلية تلقائية فالقابليات الإنسانية هي أيضاً تخضع للنظام نفسه وينحصر الفرق بأنها نسبياً ونظرياً قابلة للتغير والتطور، ولكن قابلية التطور ضعيفة غاية الضعف، بل إن رفض التطور هو الرد التلقائي المعتاد عند الأفراد والمجتمعات، أما الاستجابة للتطور فلا تحصل إلا إذا توفرت ظروف ملائمة جيدة، وطرأت أحداث قوية جارفة، ومن النادر أن تتوفر كلها مجتمعة، فالإنسان من حيث الطبيعة والفاعلية يبقى تلقائياً مهما تعلم تعلماً مدرسياً أو أكاديمياً، إنه يتشرب المؤثرات فتتبرمج بها قابلياته تلقائياً، ثم هو يبقى عفوياً في سلوكه الذي يفيض من خافيته بعد التشرب التلقائي، أو التعبئة المقصودة، إنه يفيض فيضاناً تلقائياً، إن الفيضان التلقائي هو مصدر الفاعلية الفردية والاجتماعية، فالأخلاق الفاضلة لا بد أن تكون تلقائية، والسلوك المتحضر لا بد من الاعتياد عليه والالتزام به والتآلف معه حتى يكون تلقائياً، والمعرفة لا بد من تطبيقها والتشبع بها إلى الدرجة التي تجعلها تمتزج في النفس فتفيض تلقائياً، والاتقان العملي لا بد أن يمارس برغبة وحماسة وانتظام وامتلاء ليكون تلقائياً…
ولأن شخصيات الناس نتاج ثقافي تلقائي، فإن عقلياتهم وحظوظهم وعاداتهم وسلوكهم ومصائرهم تتفاوت بمقدار الاختلافات الثقافية بين الأمم، فيكون الفرد محظوظا إذا تحققت تعبئة قابلياته بما يرتقي باهتماماته ويشحذ فكره وينمي عقله ويوسع خياله ويكون القدرة التحليلية اللازمة له ويملأ خافيته بأنقى وأوسع وأرفع ما توصلت إليه العلوم والمهارات والآداب، إن هذه التعبئة تجعله جاهزاً تلقائياً للعطاء المتدفق بغزارة ودقة وانتظام. إن الفرق بين التدفق التلقائي بعد تعبئة القابليات بالمعارف وبالمهارات وبالسلوك المتحضر، وبين التصرف الآني الذي يتخذه الإنسان من غير أن تكون خافيته جاهزة للتعامل التلقائي معه، إن هذا يشبه الفرق بين انتظام وغزارة وتدفق النهر مقابل زخات المطر المتقطعة المبعثرة التي تسقط فوق رمال عطشى حتى لو كان الفرد قد درس المجال وحفظ عنه معلومات كثيرة فلن تكون تكون مدداً له ما دام أنه لم يمارسها ممارسة عميقة وحميمة تحيلها إلى مزيج نفسي تمتلئ به بالذات وينطلق منه السلوك لكن الناس في الغالب لا يفطنون للمعنى العميق لهذه الطبيعة الأساسية التي تنتظم بها حياتهم ولا ينتبهون لضرورة التبعئة ولا يدركون أن السلوك أياً كان مستواه واتجاهه ما هو إلا فيضان تلقائي من الخافية التي تمتلئ بالخرافات والجهل المزدوج، إن لم تحصل على التعبئة المنظمة بمعارف ممحصة ومهارات دقيقة وتهذيب رفيع فالجهل المركب هو الأصل، أما التحقق العلمي فهو الاستثناء…
ولكن هذه الحقيقة الأساسية قد احتجبت عن الإدراك العام بفعل الوهم البشري المزمن، فالناس قد اعتادوا على اعتبار السلوك يأتي نتيجة تعقل آني محض كثمرة لقرارات آنية متلاحقة تتجدد بتجدد المواقف والأحداث، ولكن هذا ليس سوى وهم من الأوهام المتوارثة، ولا يخرجنا من سيطرة هذا الوهم سوى إمعان النظر في المهارات المدهشة التي يبديها بعض الأفراد من ذوي التفوق الباهر، فهؤلاء الباهرون صنعوا تفوقهم بالجهد الكثيف والرغبة العارمة والاهتمام التلقائى القوي المستغرق إنهم لم يولدوا بهذه البراعات الفائقة ولكنهم قد برمجوا أنفسهم بها، لقد عبأوا قابلياتهم بهذه المهارات المذهلة بواسطة التدريب والمران ومواصلة الممارسة حتى تشبعت بها، ففاضت بما نشاهده من قدرات مدهشة تفوق الوصف، إنها شبيهة بالعمل الخوارقي المعجز مع أنها عمل إنساني محض، إنها نتاج عمل منظم يستطيعه الآخرون، وإذا ملكوا الرغبة القوية الدافعة والتزموا بالمران الدقيق والتدريب الطويل والممارسة الجياشة فهؤلاء البارعون الخارقون لم يأتوا من كوكب آخر بل كانوا قبل اكتساب المهارات مثل غيرهم تدهشهم المهارات الباهرة التي ظهر بها من سبقوهم ولكنهم بالرغبة والطموح والاصرار وصلوا إلى المستويات التي تبهر غيرهم، كما كانت قبل أن يكتسبوها تخلب عقولهم فاحساسهم بأنها مغايرة للمألوف وبأنها باهرة وبأنه يمكن اكتسابها هو الذي دفعهم إلى بذل الجهدالكثيف لاكتسابها فكل رقم قياسي مدهش يعقبه رقم أكبر وهكذا يتنامى التفوق بواسطة برمجة القابليات عن طريق المران الكثيف والعمل المنتظم…
إن هؤلاء الباهرين في مهاراتهم المدهشة كانوا قبل التشبع مثل غيرهم لا يملكون أية مهارة ولكنهم قد اكتسبوا مهاراتهم الفائقة ببرمجة أنفسهم، وهنا يجب أن نهتم بتاريخ أصحاب المهارات الفائقة، وأن نبرزها للأجيال بكثافة وتركيز وتكرار لينكشف الفرق الهائل بين الكلال الذي عاشه الماهرون قبل امتلائهم بالمهارات ثم كيف صاروا رائعين ومذهلين بعد أن برمجوا أنفسهم بها، فلا بد أن تعرف البدايات كما تعرف مراحل بناء وتطور المهارات ليعرف الجميع أن الإنسان قابل للتبرمج بأعلى المهارات وأدق المعارف وأفضل الآداب وأرقى السلوك بواسطة التعبئة الملحة المتواصلة والاهتمام القوي المستغرق أما العطالة فهي الصفة التقليائية إذا لم تتحقق برمجة الذات بالفاعلية…
إن المقارنة بين حالة الإنسان قبل المران والتدريب والممارسة وحالته بعد التشبع وانبثاق الأفكار وتدفق المهارات تؤكد أن فاعلية الإنسان هي نتاج البرمجة المنظمة بتكرار الفعل برغبة ذاتية عارمة تكراراً يجعل الفرد يمتلئ بها ويتشبع فتفيض تلقائياً بما هو رائع ومدهش من المهارات العجيبة، فهي تنساب أو تتدفق بمنتهى البراعة والقوة ويكون الانسياب أو التدفق بمقدار الامتلاء والتشبع فقابليات الإنسان متهيئة طبيعياً للبرمجة إلى درجة الاكتظاظ الزاخر الذي ينتج عنه هذا الانبثاق الباهر، أما إذا كان الفرد لم يتلق تدريباً كافياً ومراناً قوياً وممارسة جياشة فإن قابلياته تحرن وتغص وتتعثر فالمهارة تكون بمقدار درجة المران والامتلاء والتشبع فإذا افتقر المرء إلى التعبئة الكافية فسوف يكون كليل الأداء متعثر العمل ضعيف القدرة ضئيل الإنتاج، وسوف يبتعد عن الاتقان والسرعة والغزارة بمقدار افتقاره إلى الحماس الامتلاء والتشبع لأن الإنسان كائن تلقائي…
إن الطبيب الجراح الحاذق الماهر لن يحاول وهو يعمل في جسم المريض أن يتذكر ما حفظه من مقررات دراسية ليؤدي العمل بتوجيهها وإنما تتحرك يداه تلقائياً بما اعتادت عليه من أداء ماهر فهو لم يكتسب براعته مما حفظه من معلومات وإنما تبرمج بالمهارة بواسطة الاندماج في المهنة والاستمتاع بها والممارسة النابضة بالحيوية والاهتمام التلقائى والعناية المتوقدة لذلك لا يحق لعالم الأحياء أن يمارس الطب مع أنه يملك المعلومات نفسها بل أعمق وأوسع لأن مهارة الأداء لا تأتي إلا من الممارسة الطويلة والحميمة. إن المهارة الحقيقية لا تكون إلا تدفقاً تلقائياً، أما الذي لا يملك هذا التدفق التلقائى فسوف يتعثر أداؤه ويرتبك جهده ويحدث من الضرر أكثر مما يجلب من النفع…
إن نطاق الوعي المباشر عند الإنسان ضيق بل شديد الضيق قياساً بما يتطلبه التكيف مع الواقع اليومي وما تستوجبه مواجهة المشكلات لحظة بلحظة ولكن لتمكين الإنسان من الحياة بأقل قدر ممكن من الصعوبات، فقد أعطاه الله قابلية التبرمج لتنساب منه الاستجابات تلقائياً وبأقل مجهود، فهو مثلاً يقود سيارته بعد رسوخ المهارة ويسلك الطريق الذي اعتاد عليه وفي نفس الوقت يفكر في موضوعات أخرى تهمه أو يتحدث مع مرافقه أو يتكلم في الهاتف الجوال أو غير ذلك من الانشغالات، فالاعتياد هو تعبئة للقابليات لتقوم بالعمل عفوياً من غير استفار الوعي المباشر، الخافية ذات الاتساع الهائل أهم من الوعي بمحدودية نطاقه وقصر مداه وضيق مساحته، إنه ليس سوى الرأس الطافي من جبل الثلج، أما المنبع الغزير التلقائى للسلوك فهو مخزون في اللاوعي الذي يتبرمج به الفرد في الطفولة وخلال مراحل الحياة سواء كان التبرمج عفوياً أو كان مقصوداً فليس السلوك سوى سلسلة من العادات التي تفيض تلقائيا…
إن أكثر الناس يستغربون حين يسمعون أو يقرأون بأن الإنسان لا يستخدم سوى جزء ضيل من عقله لأنهم لا يجدون في ذواتهم فائضاً من العقل لم يستخدموه لكن القصة ليست على هذا النحو الذي تخيلوه، فالعقل ليس جوهراً مكتمل التكوين، وإنما هو مجرد قابليات متهيئة لاستقبال ما تتبرمج به من علم أو جهل ومن مهارة أو كلال ومن وقاحة أو تهذيب ومن ذوق مرهف أو حس غليظ، فحين يقال بأن الإنسان لا يستثمر من عقله غير جزء قليل، فإن المقصود أن قابلياته مفتوحة إلى ما لا نهاية وأنها تستقبل التعبئة دون توقف وتتبرمج من غير امتلاء سواء كانت التعبئة جيدة المحتوى أم كانت رديئة المضمون، فإذا برمج الفرد قابياته بالأفكار الخلاقة والمعارف الدقيقة والمهارات العالية نمت طاقاته العقلية إلى مستويات مدهشة وبهذا يكون قد استخدم عقله استخداماً ذكياً راشداً، أما إذا هو أهمل قابلياته وتركها تمتلئ بما هب ودب كبئر مهجورة غير مسورة يتساقط فيها ما تنقله الرياح وما يرميه الآخرون فسوف لن يجد في عقله سوى الذي تلقته قابلياته من هذا الخليط المتنافر السيئ، إن هذا هو المعنى المقصود الذي يكرره الباحثون والمهتمون حين يقولون أو يكتبون بأن الإنسان لا يستخدم سوى جزء يسير من عقله فالقابليات العظيمة الواسعة المفتوحة تبقى معطلة أو تمتلئ بما يفسد العقل ويشل الذكاء ويبدد الطاقة ويستبعد الفاعلية…
ابراهيم البليهي
فلسفة الكاتب ابراهيم البليهي جميلة وجذابة الا انه يوخذ عليه قسوته الشديدة على العرب وتحميلهم مسألة التخلف الذي يعيشونه من الناحية الحضارية بجميع فنونها الصناعية والعلمية والثقافيه ولا يدري البليهي اوتغافل عن انه واحد من هذه الامه ولا اشك ان عنده مخزون عن ماكان للامة العربية والاسلامية من حضارة حكمة العالم في فترات من الزمن طويل . فمن الاولى للبليهي بدل هذا النقد الاذع للامة العربية ان يبحث عن السبب في ذلك ولا اشك ابدا ان سبب تخلف الامة هو انضمة الملك العضوض كما ذكر في الاثر .. الدول حقيقة لا تنهض الا اذا حكمها حكومات كفوا ومخلصة فننظر الى ماليزيا مثلاً كيف استطاع رجل واحد ان يطور بلده بشكل سريع وكبير لأنه رجل مخلص فالسفينة لا تجري الا بربانها ولا دخل للشعوب ولا حيلة لهم اذا كانوا
والكلام كثير والحر تكفيه الاشارة والله المستعان